تعليم ، دروس ، تمارين ، حلول ، كتب ، أكواد ، طبخ ، أخبار ، توظيف
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
style

شاطر
 

 في رحاب غزة مؤتة

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
نجم الجزائر
المدير العام
المدير العام
نجم الجزائر

البلد : الجزائر
الجنس ذكر
تاريخ الميلاد تاريخ الميلاد : 12/01/1994
الْمَشِارَكِات الْمَشِارَكِات : 10301
السٌّمعَة السٌّمعَة : 569
الإنتساب الإنتساب : 15/08/2011

في رحاب غزة مؤتة Empty
مُساهمةموضوع: في رحاب غزة مؤتة   في رحاب غزة مؤتة Empty21/7/2012, 2:32 am


في رحاب غزوة مؤتة

الكريم وفي العامِ الثامن من الهِجرة، كانتْ
غزوةٌ من أعظمِ الغزوات، ومَلْحَمة مِن كُبرَى الملحمات، وقعَتْ بين
المسلمين وبين النَّصارى الصليبيِّين، كانتْ مقدمةً لفتْح بلاد الشام
وتحريرها مِن الرُّومان.



أولاً: سبب الغزوة:


بعد
أنْ أخَذ المدُّ الإسلامي يَنْسَاح في أطراف الجزيرة العربية عَقِب صُلح
الحُديبية، لم يَأْلُ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جُهْدًا لنشْر
الإسلام خارجَ حدود الحِجاز، وخارجَ حدود الجزيرة العربيَّة، وقد عبَّر -
عليه الصلاة والسلام - عن هذا المنهجِ قولاً وعملاً من خلالِ إرساله عددًا
من الرسل إلى أمراءِ أطراف الجزيرة العربيَّة، وإلى ملوك العالَم المعاصِر،
وخارجَ الجزيرة العربيَّة.



ومِن هذه الرسائلِ رِسالةٌ
أرْسلَها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أمير بُصرَى من ولايات
الرُّوم، وحمل الكتابَ الحارثُ بن عمير الأزدي فاعتَرَضه في الطريق
شُرَحْبيل بن عمرو الغسَّاني، وسأَلَه: أأنت من رُسل محمَّد؟ فقال: نَعَم،
فأمر به شُرَحبيل فأوثقوا رباطه، وقدَّمه فضرب عنقَه ولم تَجرِ العادة
بقتْل الرُّسل والسُّفَراء، وترامَتْ هذه الأخبار إلى المسلِمين في
المدينة، فجرحَتْ كرامتهم، وآلَمتْ نفوسَهم؛ لأنَّ الرسل لا يُقتَلون؛ لذلك
كان وقْعُ هذه الإهانة شديدًا على المسلمين، فعزَموا على القصاص لرَجُلهم،
وعلى زلزلةِ الوالي الأثيم الذي صَنَع ما صَنَع لحسابِ الرُّومان.




ثانيًا: تجهيز النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للجيش:


ومِن
ثَم أمَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين بالتَّجهيزِ
للقِتال، فاستَجابُوا لأمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبلَغ عددُ
المقاتلين في هذه السَّرِية ثلاثةَ آلاف مقاتل، واختار النبي - صلَّى الله
عليه وسلَّم - للقيادةِ ثلاثةَ أُمراء على التوالي: زَيْد بن حارثة، فإنْ
قُتِل زيدٌ فجعفر، فإنْ قُتِل جعفر فعبدالله بن رَواحة، وقد أَمَر رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الجيشَ الإسلامي أنْ يأتوا المكانَ الذي
قُتِل فيه الحارث بن عمير، وأنْ يَدعوا مَن كان هناك إلى الإسلام، فإنْ
أجابوا فبِها ونعمت، وإنْ أَبَوا استعانوا بالله عليهم وقاتَلُوهم.



وقد
زوَّد الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الجيْش في هذه السريَّة بوَصايا
تتضمَّنُ آدابَ القِتال في الإسلام، فقد أوْصى أصحابَه بقوله: ((أُوصِيكم
بتقوى الله وبِمَن معكم من المسلمين خيرًا، اغْزوا باسمِ الله، في سبيل
الله، مَن كفَر بالله، لا تَغْدِروا، ولا تَقْتُلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا
كبيرًا فانيًا ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقرَبوا نخلاً، ولا تَقْطَعوا
شجرًا، ولا تَهْدِموا بناءً، وإذا لقيتُم عدوَّكم من المشركين فادعوهم إلى
إحْدى ثلاث: فإمَّا الإسلام، وإمَّا الجِزية، وإمَّا الحرب)).




حقًّا؛
إنَّه جيش المبادِئ التي بقيتْ معلمًا للبشريَّة خلالَ تاريخها، حتى أصبحت
البشريَّة اليوم تضَع مبادئ في أصول الحرْب لم ترتَفِع معها إلى المستوى
الإسلامي، فوصيَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُوضِّح أنَّ الهدف
الأعظم من هذه المعركة وغيرها هو نشْرُ هذه العقيدة، وإبلاغ هذا الدِّين
على يدِ هذه العصبة المؤمِنة، التي هيَّأها الله لذلك، ليس الأمر طمَعًا في
مالٍ أو أرضٍ أو جاهٍ، إنَّما دعوة الناس إلى الدُّخول في دِين الله.




وقفة:


أرأيتُم
معنى هذا الهدي النبوي الذي تَفُوح مِن ثَنايَاه الرَّحمة والشفقة، كيف لا
وقائلها هو الرحمة المُهداة، والنعمة المسداة؟! لم تقف رحمتُه عندَ حدود
الإنسان، بل تعدَّتْه إلى النبات والجماد: ((ولا تقرَبوا نخلاً، ولا تقطعوا
شجرًا، ولا تَهْدِموا بناءً)).



إنَّ في هذا رسالةً
نوجِّهها إلى مَن يَسِمُون الإسلامَ ونبيَّ الإسلام بالعنف والإرهاب،
كبُرتْ كلمةً تخرج من أفواههم، إنْ يقولون إلاَّ كذبًا، أيُّ مراعاةٍ لحقوق
الإنسان كتِلك التي نراها في هدي سيِّد الأنام؟! قارِنُوا معي بين هذا
الهدي النبوي وبين ما تفعَلُه جحافل الغزو الصليبي والصِّهْيَونيِّ بفلسطين
والعراق وغيرها من أرض الإسلام، ممَّا نراه عبر وسائل الإعلام من سفْكٍ
لدماء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وانتِهاكٍ للأعراض بلا
مراعاةٍ لأدنى حقوق الإنسان، وتجريفٍ للأراضي والممتَلكات على مرأى ومسمع
من بني الإنسان!




ولَمَّا تجهَّز الجيشُ الإسلامي وأتَمَّ
استعدادَه، توجَّه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسلمون يودّعون
الجيشَ ويرفعون أكفَّ الضراعة لله أنْ ينصُرَ إخوانهم المجاهدين، فسلَّموا
عليهم وودَّعوهم بهذا الدعاء: دفعَ الله عنكم وردَّكم صالحين غانِمين،
ولَمَّا ودَّع الناس عبدالله بن رواحة، بكى وانهمرت الدموع من عينيه ساخنة
غزيرة، فتعجَّب الناس وقالوا: ما يُبْكيك يا ابن رَواحة؟ فقال: والله ما في
حبِّ الدنيا، ولكنْ سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقرأ آية
من كتاب الله يذكر فيها النار؛ ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾
[مريم: 71].




فلستُ أدري، كيف بي بالصدور بعد الورود؟ فقال لهم المسلمون: صحبكم الله، ودفعَ عنكم، وردَّكم إلينا صالحين، فقال:

لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَحْمَنَ مَغْفِرَةً
وَضَرْبَةً ذاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدا
أَو طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً
بِحَرْبَةٍ تُنفِذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا
حَتَّى يُقَالَ إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي
يَا أَرْشَدَ اللهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا



وصَل
الجيشُ الإسلامي إلى أرض "مَعَان" من بلاد الشام، وهناك فوجِئ المسلمون
بما لم يكنْ في الحُسبان أو يخطر لهم على بالٍ، فقد وصَل إلى مسامعهم أنَّ
"هِرَقْل" عظيم الروم قد حشَد جيشًا قوامه 100 ألف مُقاتِل صليبي، بالإضافة
إلى مائة ألف أخرى من نصارى القبائل العربيَّة في بلاد الشام، فاجتمعَ
مائتا ألفٍ، وهنا أقام المسلمون في "مَعَان" يومين يتشاوَرُون في التصدِّي
لهذا الحشْد الضخْم؛ فقال بعضهم: نرسلُ إلى رسول الله في المدينة نخبره
بِحُشود العدو، فإنْ شاء أمدَّنا بالمدد، وإنْ شاء أمرنا بالقتال، وقال
بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: قد وطئت البلاد وأخْشَى أهلَها فانصرفْ؛
فإنَّه لا يَعْدِل العافيةَ شيءٌ.




تُرى كيف كان موقف قائد
الجيش إزاء هذه الجموع المتلاطِمَة من جُند الروم؟ إنَّ هذا الدِّين الذي
ضرَب جذورَه في أعماق هذه العصبة المؤمنة جعَل منهم نموذجًا لا يُبالِي
بكثرة العدد والعُدَّة، ومن هذه النماذج ذلكم البطلُ المغوار والأسد
المقْدام عبدالله بن رواحة الذي لم يعجبه ما أشار به أصحابُه، وإنما حسَم
الموقف بقوله: "والله للَّتي تكرهون للَّتي خرجْتُهم تطلبون: الشهادة، وما
نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة، فإنَّما نُقاتِلهم بهذا الدين الذي
أكرمَنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحُسنيَيْن؛ إمَّا ظهور وإمَّا
شهادة"، فألهبتْ هذه الكلمات مشاعر المجاهدين، وفعلَتْ في الجيش كلِّه
فِعْلَ السحْر، وانطلق الجيش للمواجهة قائلين: قد والله صدقَ ابنُ رَواحة.




إنَّ
فكرة الشهادة والأمل برضوان الله - تعالى - ودخول الجنة قد أثبتَ التاريخ
علميًّا أنها أقوى دافع في هذا الوجود للمواجهة والموت؛ لأنَّ المسلمين على
يقينٍ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى للمسلم من كلِّ شيءٍ، فلا يتوانَى لحظة
واحدة عن الإقبال على الموت، تغمُرُه السعادة، ويحدُوه الرضا بقَضاء الله
وقدره، وكلا الأمرين لا يدري أيهما أحبّ إليه: النصر أم الشهادة؟ وهذه
الرُّوح المعنويَّة التي رافقت الجيش المسلم في كلِّ معاركه هي التي
رجَّحتْ كِفَّته دائمًا على عدوِّه ودانتْ له الأرض بسبب ذلك.




وكانتْ
لحظة المواجهة عند قرية "مُؤْتَة"، فالْتَقَى الجمعان، والْتَحَم الجيشان،
واندَفَع زيد بن حارثة حاملاً لواءَ التوحيد، مستبسلاً استبسالَ الأبطال،
وتوغَّل في صفوف الأعداء وهو يحملُ رايةَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - حتى شاطَ في رِماح القوم وخرَّ شهيدًا، فكانت الراية لجعفر بن أبي
طالب، تُرَى هل ضَعُفَ أو استكان؟ وهل تراجَع وتذبذب؟ كلاَّ والله إنَّ
الشوق إلى الجنَّة قد حدا بجعفر إلى أنْ يَنزِل عن فرسه الشقراء ويتَراقَص
فرحًا بالجنة وهو يُواجِه العدو:

يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا
والرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا
كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا



لقد
أخَذ - رضي الله عنه - اللِّواء بيده اليمنى فقُطعتْ، فأخذه بشماله
فقُطعتْ، فاحتضنَه بعَضُدَيه، وانحنى عليه حتى استُشهِد وهو ابن ثلاثٍ
وثلاثين سنة، ولقد أُثْخِنَ - رضي الله عنه - بالجراح؛ إذ بلَغَ عددُ
جِراحه تسعين؛ بين طَعنة برُمْح، أو ضربة بسيف، أو رَمْيَة بسهمٍ، وليس من
بينها جرح في ظَهْره، بل كلُّها في صدره، فهنيئًا لك الشهادة يا جعفر، لقد
عوَّض الله - تبارك وتعالى - جعفرًا وأكرَمَه على شجاعته وتضحيته بأن جعَل
له جناحين يطير بهما في الجنَّة حيث يشاء، وكان ابن عمر إذا حيَّا ابنَ
جعفرٍ قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحَيْن.




لقد
استُشهِد جعفر عقب استشهاد زيد - رضي الله عنهما - فأخذ الراية عبدالله بن
رَواحة، وجرى بعضُ الفتور في الرُّوح المعنويَّة عند عبدالله بن رَواحة،
لكنَّه سَرعان ما نشِط من فتوره وقاوَمَ خلجات نفْسِه، وامتطى صهوة جواده
قائلاً:

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ
طَائِعَةً أَوْ لا لَتُكْرَهِنَّهْ
إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ
قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ
مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ



لم يكتف بهذا الحديث النفْسي، فراح ينقلُ حديثًا آخرَ:

يَا نَفْسُ إِلاَّ تُقتَلِي تَمُوتِي

هَذَا حِمَامُ المَوْتِ قَدْ صَلِيتِ

وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ

إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ



ويُذكَر
أنَّ ابن عمٍّ لعبدالله بن رَواحة قد قدَّم له قطعةَ لحْمٍ وقال له: شُدَّ
بهذا صلبك، فإنَّك لقيتَ في أيَّامك هذه ما لقيتَ، فأخذه مِن يده ثم انتهش
منه نهْشةً، ثم سمِع جَلَبة وزحامًا في جبهة القتال، فقال يُخاطِب نفسَه:
وأنتَ في الدنيا، ثم ألْقَى قطعة اللحْم من يده، وتقدَّم يقاتلُ العدو حتى
استُشهِد.




ها هم القوَّاد الثلاثة خرُّوا شُهداء في أرض
المعركة، وكان استشهادُهم كفيلاً بتحطيم الرُّوح المعنويَّة للجيش المسلم،
إلاَّ أنَّ ثابت بن أقرم تَدارَك الأمر وأخَذ الراية وهو يحسُّ بثِقَل
الأمانة، وصاحَ: يا للأنصار! فأتاه الناس من كلِّ وجْه وهم قليل، وهو يقول:
إليَّ أيُّها الناس، فلمَّا نظر إلى خالد بن الوليد، قال: خُذِ اللواء يا
أبا سليمان، فقال: لا آخُذُه؛ أنت أحقُّ به؛ أنت رجلٌ أمين وقد شَهِدتَ
بدرًا، قال ثابت: خُذْ أيُّها الرجل، فوالله ما أخذتُه إلاَّ لك، فأخذَه
خالد، وهكذا استطاعَ هذا الجيش المسلم أنْ يُواجِه ذلك البحر المتلاطِم من
البشر بتلك الرُّوح المعنويَّة العالية التي لم يَرَ لها التاريخ مثلاً
إلاَّ في المحضن الإسلامي.




أخذَ خالد اللواء، وأصبحت الخطة
الأساسيَّة المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبَة من القِتال أنْ ينقذَ
المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدَّر الموقف واحتمالاته المختلفة
تقديرًا دقيقًا، ودرسَ ظروف المعركة درسًا وافيًا، وتوقَّع نتائجها - اقتنع
بأنَّ الانسحاب بأقلِّ خسارة ممكِنة هو الحل الأفضل، فقوَّة العدو تبلغ 66
ضعفًا لقوَّة المسلمين، فلم يبقَ أمام خالد إلا الانسحاب المنظَّم، وعلى
هذا الأساس وضَع خالد بن الوليد خُطته، ولبلوغه هذه الهدف عملَ على تَضلِيل
العدو بإيهامه أنَّ مددًا قد ورَد إلى جيش المسلمين، فيخفِّف من ضغطه
وهجماته، ويتمكَّن المسلمون من الانسحاب، وصمَد خالد حتى المساء عملاً بهذه
الخطة، وغيَّر في ظلام الليل مراكزَ المقاتِلين في جيشه، فاستبدل الميمنة
بالميسرة، والمقدمة بالمؤخِّرة، وفي أثناء عمليَّة الاستبدال اصطَنَع ضجَّة
صاخبة وجلَبَة قويَّة، ثم حمل على العدوِّ عند الفجر بهجمات سريعة متتالية
وقويَّة؛ ليدخلَ في روعه أنَّ إمدادات كثيرة وصلتْ إلى المسلمين.




ونجحت
الخطة؛ إذ بدا للعدوِّ أنَّ الوجوه والرايات التي تُواجِهه جديدة لم يرَها
من قبلُ، وأنَّ المسلمين يقومون بهجماتٍ عنيفةٍ، فأيقَنَ أنهم تلقَّوا
الإمدادات، وأنَّ جيشًا جديدًا نزَل إلى الميدان، وكان البلاء الحسَن الذي
أبْلاه المسلمون قد فتَّ في عضُد الروم وحُلَفائهم؛ فأدرَكُوا أنَّ إحراز
نصرٍ حاسمٍ ونهائي على المسلمين مستحيل، فتخاذَلوا وتقاعَسوا عن مُتابَعة
الهجوم، وضَعُفَ نشاطُهم، فخَفَّ الضغْط عن جيش المسلمين، وانتَهَز خالد
الفرصة فباشَر الانسِحاب، وكانتْ عمليَّة التراجُع التي قام بها خالد في
أثناء المعركة من أكثر العمليَّات في التاريخ العسكري مهارةً ونجاحًا، بل
إنها تتَّفِق وتتلاءَم مع التكتيك الحديث للانسحاب.




ويمكن
القول: إنَّ خالدًا بخطته تلك قد أنقَذ الله المسلمين به من هزيمةٍ ماحقةٍ
وقتْلٍ محقَّق، وأنَّ انسحابَه كان قمَّة النصر بالنسبة لظروف المعركة؛ حيث
يكون الانسِحاب في ظروفٍ مُماثِلة أصعَب حركات القتال، بل أجداها وأنفعها.




وقد
ظهَرتْ معجزة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أمر هذه المعركة؛ فقد
نعى القوَّاد الثلاثة قائلاً: ((أخذ الراية زيد فأُصيبُ، ثم أخذها جعفر
فأُصيبَ، ثم أخذها ابن رَواحة فأُصيب - وعيناه تزرفان - ثم أخذ الراية سيف
من سيوف الله، حتى فتحَ الله عليه)).




ولما دَنَا الجيش من
حول المدينة، تلقَّاهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسلمون
ولَقِيَهم الصبيانُ بصيحات الاستِنكار، فجعلوا يحثُون على الجيش التراب
ويقولون: يا فرّار، أفررتهم في سبيل الله، ورسول الله يقول: ((ليسوا
بالفرار ولكنَّهم الكَرار إنْ شاء الله)).




وقفة:


إنَّ
أولئك الصِّغار الأغرار يرَوْن انسحاب خالد ومن معه فرارًا يُقابَل بحثوِّ
التراب، الله أكبر! أيُّ نجاح بلغتْه رسالة الإسلام في صِياغة أولئك
الأطفال العظام؟! مَن آباؤهم؟ مَن أمهاتهم؟ إنَّ الإنسان لَيعجَبُ من هذه
التربية النبويَّة التي صنعتْ من الأطفال الصغار رجالاً وأبطالاً يرَوْن
العودَة من المعركة دون شهادة في سبيل الله فرارًا من سبيل الله، لا
يُكافَؤون عليه إلا بحثو التراب في وجوههم، فأين شبابُنا المتسكِّعون في
الشوارع من هذه النماذج الرفيعة من الرجولة الفذَّة المبكِّرة؟! ولن تستطيع
الأمَّة أنْ ترتفع إلى هذه الأهداف النبيلة والقِمَم الشامخة إلا بالتربية
الإسلاميَّة الجادَّة القائمة على المنهاج النبوي الكريم.



غزوة "مؤتة" مَعِينٌ لا يَنفَدُ وبحر لا ينضب من الدرس والعِبَر، ولنا فيها وقفاتٌ:


الوقفة الأولى: مقاييس الإيمان وأثرها في المعارك:

إنَّ
المتأمِّل بعمقٍ في غزوة مؤتة يُساعِدنا في معالجة الهزيمة النفسيَّة
والرُّوحيَّة التي تمرُّ بها الأمة، وبإقامة الحجَّة على القائلين بأنَّ
سبب هزيمتنا التفوُّق التكنولوجي لدى الأعداء، لقد سجَّل ابن كثير رأيَه في
هذه المعركة وقال: "وهذا عظيم جدًّا أنْ يتقاتل جيشان متعاديان في
الدِّين؛ أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عُدتها ثلاثة آلاف
مقاتل، وأخرى كافرة وعُدَّتها مائتا ألف مُقاتِل، يَتبارَزون ويَتصاوَلون،
ثم مع هذا كلِّه لا يُقتَل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وقد قُتِل من
المشركين خَلْقٌ كثير، هذا خالد وحدَه يقول: لقد اندقَّتْ في يدي يوم
"مؤتة" تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلاَّ صفيحةٌ يمانيَّة، فماذا تَرَى قد
قُتِل بهذه الأسياف كلِّها؟ فضلاً عن غيره من الأبطال والشُّجعان من حمَلَة
القرآن...".



الوقفة الثانية: حبُّ الشهادة أقوى باعث للتضحية:


إنَّ
الجيش الإسلامي في مؤتة إنما هو كتيبة دُعاة حضَرتْ إلى أرض الشام؛
لتُتابِع رسالة المسلم الشهيد الذي قضَى نحبه وهو يُبلِّغ رسالة ربِّ
العالمين، ولا تستطيع ونحن نتحدَّث عن مؤتة إلا الوقوف عند أبطالها
الكِبار: زيد بن حارثة، ومَن زيد؟! إنَّه مولى رسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - ومن أخصِّ خاصَّته؛ فلقد أحبَّه رسول الله حبًّا مشهورًا عند
الصحابة جميعًا، فيُطلِقون على ابنه أسامة "الحِب ابن الحِب"، وهو أوَّل
مَولى على الأرض أشرق قلبُه بنور الإسلام، وهو رجل المهمَّات الصعبة بلا
شكٍّ؛ فهو المكلَّف بإحضار أهل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من
قلب مكَّة بعد غزوة بدر، حين يحدق الخطر في أشدِّ أهواله وحين يقدِّم رسول
الله لهذه المخاطر أحبَّ الناس إليه، لا يضنُّ الناس بِمُهَجِهم وأرواحهم
بين يدي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.



وكان الرجل
الثاني جعفر بن أبي طالب طرازًا رفيعًا من الرجال، إنه ذلكم الرجل الذي
شهدناه داعيَةً إلى الله - عزَّ وجلَّ - في الحبشة، ورئيس الجالية
الإسلاميَّة فيها، وأكرَمَه الله - تعالى - أنْ تُسْلِم الملوك على يديه،
فهو الذي أوضح الإسلام للنجاشي فاعتَنَقه، ولم نشهَدْه إطلاقًا مقاتلاً في
المعركة بأنَّه سفير فوق العادَة لفترة خمسة عشر عامًا خلتْ في أرض الغربة؛
لسانًا ووطنًا ودينًا، إذا به اليوم قائد معركة، ولا ننسى أنَّه لم يمرَّ
على انضمام جعفر للصفِّ الإسلامي في المدينة إلا سنة واحدة أو تزيد قليلاً،
عام واحد فقط متَّع فيه رسول الله نفسَه برؤية حبيبه جعفر، ويَكفِي أنْ
نَعرِف مبلغ حبِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لجعفر بعد غربة
خمسة عشر عامًا؛ إذ إنَّ رؤيته كانتْ تُعادِل هزيمة اليهود، فقال - صلَّى
الله عليه وسلَّم -: ((والله ما أدري بأيِّهما أُسَرُّ؛ بفتح خَيْبَر أم
بقدوم جعفر؟))، وعلى شدَّة هذا الحبِّ وطول تلك الغربة عندما لاحَتْ
بَوارِق الصدام مع الروم، فكان الرجل الثاني لذلك جعفر بن أبي طالب، الذي
أبدى من ضروب البَسالَة والقوَّة والمقاومة ما تتصاغرُ أمامَه الصناديدُ
الأبطال، يُقاتِل حتى آخر رمقٍ، بل وحتى تُقطَّع أوصاله وتُمزَّق أشلاؤه:

يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا



وكان
الرجل الثالث عبدالله بن رواحة، ومَن هو؟ رجل من رجالات الأنصار، شاعر
عظيم من شعراء الإسلام، تَرى فيه نموذج المؤمن العابد الخاشع عندما يسمع
قولَ الله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71]، فيبكي خوفًا
من النار، كما ترى فيه نموذج البطل المِغوار والأسد المِقدام عندما يحمِّس
الجيش وقد دبَّ الوهَن في قلبه، "والله إنَّ التي تكرهون للَّتي خَرجْتُم
تطلبون..."، تراه يُعلِن الحرب على نفسه قبل عدوِّه عندما راودتْه في أرض
المعركة على الرجوع والتذبذب، فيكبح جماحَها، ويُقْسِم عليها أن تخوضَ
المكاره والصِّعاب؛ لينال شرَفَ الشهادة واللحاق بصاحبَيْه، وكان له ما
أراد.




وكان الرجل الرابع سيف من سيوف الله خالد بن الوليد،
ومَن خالد؟ إنَّه ذلكم الرجل الذي يُعجَب لحاله، ويُدهَش من أمره، فعندما
كان خالد في هذا الجيش لم يمضِ على إسلامه ثلاثةُ أشهر بعد حرْب عشرين
عامًا ضدَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقد مضَى خالدٌ بعزيمة
الرجال يريد أنْ يطوي تلك الصفحة السوداء من حياته؛ ليكتبَ صفحةً جديدةً من
نورٍ تَغْسِل تلك الصورة القاتمة عن ماضيه في الصدِّ عن سبيل الله، ومن
أجْل ذلك فما أنْ لاحَتْ بوارق التعبئة لِمُؤتة، حتى كان من أوائل
المنضمِّين لهذا الجيش، ونفسُه تَتُوقُ إلى تلك اللحظة التي يُشهِر فيها
سيفَه في سبيل الله، ولم يكن يَدرِي أنَّه سيكون في موقعٍ الاختبار منذ
اللحظات الأولى، ولكنْ ما أرادَه الله أنْ يكون هو بطل المرحلة، وظهرتْ
معادنُ الرجال، وبطولات الرجال، وعبقريَّات الرجال.




يا
لعظمة هذا الدِّين! خالد الذي همَّ قبل عام ونصف أنْ ينقضَّ على محمد -
صلَّى الله عليه وسلَّم - في صلاة العصر في الحُدَيبية يُطلَب منه الآن أنْ
ينقذَ جيشَ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المذبحة المحتّمة مذبحة
الروم، خالد الذي انقضَّ فِعْلاً على محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل
خمس سنوات من الخَلف في أُحدٍ، وحطَّم النصرَ المؤزَّر الذي حقَّقه
المسلمون، يُطلَب منه اليوم أنْ يعيدَ الكرَّة وينقذَ الجيش المنهَزِم
المعرَّض للفناء مع فارق العدد بين أُحدٍ ومؤتة؛ فالمشركون في أُحد كانوا
أربعة أضعاف المسلمين، واليوم المشركون يبلغون ضِعف المسلمين سبعين مرَّة،
ومع ذلك تحقَّق النصر، وفتَح الله على يديه.




بمثْل هؤلاء
الفرسان، وبمثْل هذه الشجاعة والبطولة، يُمكَّن للإسلام وأهله، بمثل هؤلاء
تُنْصَر الأمة؛ إنهم فِتْيَة آمنوا بربِّهم وزادَهم هدًى:

شَبَابٌ ذَلَّلُوا سُبَلَ الْمَعَالِي
وَمَا عَرَفُوا سِوَى الإِسْلاَمِ دِينَا
تَعَهَّدَهُمْ فَأَنْبَتَهُمْ نَبَاتًا
كَرِيمًا طَابَ فِي الدُّنْيَا الْغُصُونَا
إِذَا شَهِدُوا الْوَغَى كَانُوا كُمَاةً
يَدُكُّونَ الْمَعَاقِلَ وَالْحُصُونَا
إِذَا جَنَّ الْمَسَاءُ فَلاَ تَرَاهُمْ
مِنَ الإِشْفَاقِ إِلاَّ سَاجِدِينَا
كَذَلِكَ أَخْرَجَ الإِسْلاَمُ قَوْمِي
شَبَابًا مُخْلِصًا حُرًّا أَمِينَا
وَعَلَّمَهُ الْكَرَامَةَ كَيْفَ تُبْنَى
فَيَأْبَى أَنْ يُذَلَّ وَأَنْ يَهُونَا




الالوكة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://sitealgerie.yoo7.com/
 

في رحاب غزة مؤتة

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» تحميل كتاب : ساعة في رحاب الرسول

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات نجم الجزائر :: إسلاميات :: القسم الاسلامي العام :: السيرة النبوية-