مفهوم الجزاء في القانون الدولي العام
مفهوم الجزاءات في القانون الدولي العام
يمكن تعريف القانون الدولي العام بأنه مجموعة القواعد القانونية
التي تنظم العلاقة بين أشخاص المجتمع الدولي([1]). فهو إذن نظام قانوني
يحكم المبادئ المنظمة والمنشئة للمجتمع الدولي ، والذي يتضمن حقوق الدول
وواجباتها وحقوق وواجبات غيرها من أشخاص القانون الدولي([2]) . وعلى الرغم
من انه لا شك في وجود القانون الدولي ، إلا أن بعض الكتاب حاولوا إنكار
الصفة القانونية للقانون الدولي ، وقد اسندوا ذلك إلى سببين رئيسين هما :
1- فقدان السلطة ، 2- فقدان الجزاء . ويرد بعض كتاب آخرون على الاعتراض
المستمد من فقدان هذين العنصرين في الجماعة الدولية ، وذلك باللجوء إلى
إثبات وجودهما مع الاختلاف في طريقة الإثبات لدى هؤلاء الكتاب وذلك من خلال
التأكيد على أن القانون الدولي موجود ونافذ ويعتمد بالدرجة الأساس على
إرادة الدول عن طريق التوافق والانسجام بين أفراد الجماعة الدولية([3]) .
ولعل
الرأي الراجح هو أن المجتمع الدولي لم يزل بعد على شيء من التفكك وسيطرة
قوى معينة تتحكم وفقاً لأهوائها ومصالحها في تطبيق قواعد القانون الدولي ،
ومن خلال ممارستها تلك التصرفات توحي بان سلطة إصدار الجزاءات مرهونة
بإرادتها . وسوف نقسم هذا الفصل إلى مبحثين ، نتناول في المبحث الأول
التعريف بالجزاءات الدولية وفكرتها في القانون الدولي العام ، ثم نعمد في
المبحث الثاني إلى دراسة أشكال الجزاءات الدولية في القانون الدولي والسلطة
المنوط بها توقيع الجزاء الدولي ، واخيرا نتناول أهداف الجزاءات الدولية .
المبحث الأول : التعريف بالجزاءات الدولية
إن مصطلح الجزاءات الدولية يحمل في مضمونه معنىً محدداً وهو جميع
الإجراءات والتدابير التي تلجأ إليها الدول فرادى أو بعمل جماعي ضد الدولة
التي انتهكت أحكام النظام القانوني الدولي ، بقصد إرغام هذه الدولة
المخالفة على تعديل سلوكها المنحرف واصلاح الضرر الذي نجم عن سلوكها هذا .
وبناءً على هذا فالجزاءات الدولية هي كل التدابير والإجراءات التي تكون
الدول بشكل فردي أو المنظمات الدولية التي تمثل المجتمع الدولي هي المختصة
أولا واخيراً في فرضها ضد الدولة التي انتهكت أحكام القانون الدولي .
ويعني مصطلح الجزاءات " Sanctions" في معناه الواسع أي إجراء أو
تدبير يتم اتخاذه لغرض تعزيز النظام الاجتماعي و يرمي إلى تنظيم السلوك
الإنساني ، فالغرض من الجزاء هو لجعل السلوك المنحرف متطابقاً مع الأهداف
والمعايير الاجتماعية ، وكذلك لمنع حدوث مثل هذا السلوك الذي لا يتوافق مع
هذه الأهداف والمعايير ، ومن ثم فأن الجزاء في معناه الواسع ينطوي على هدف
الحد من سلوك معين غير مرغوب فيه وإنهائه ، كما يرمي إلى عدم تشجيع حدوث
مثل هذا السلوك في المستقبل ، وكلمة (الجزاء) "Sanction" مأخوذة عن القانون
الروماني ، حيث كانت تعني العقوبة المفروضة على شخص يخرق القانون ، واستمر
استعمال هذا المصطلح في إطار هذا المعنى الضيق وبشكل مستمر ضمن إطار
القانون الداخلي (الوطني) ، أما في إطار العلاقات الدولية فقد استخدم هذا
المصطلح بشكل عرفي في معناه الواسع([4])?.
ولغرض إيراد المزيد
من التفصيل عن موضوع الجزاءات في القانون الدولي العام ، لا بد لنا من
التطرق إلى تعريف الجزاء وفكرته في القانون الدولي وهذا سنتناوله في المطلب
الأول من هذا المبحث ، ثم نتناول في المطلب الثاني تعريف الجزاءات الدولية
الاقتصادية .
المطلب الأول: التعريف بالجزاء وفكرته في القانون الدولي العام
تعتبر مسالة تعريف الجزاء وفكرته في القانون الدولي العام من اكثر
الأمور المثيرة للجدل بين أوساط الفقه ، وهي تعتبر أيضا بمثابة ميدان
للمواجهة الفكرية بين فقهاء القانون الدولي العام وبين أقرانهم من فقهاء
القانون الداخلي (الوطني) وفي مقدمتهم أولئك المختصين بالقانون الخاص .
ولأهمية هذه المسالة فسوف نتناول أولا تعريف الجزاء في القانون الدولي
العام ثم نبحث بعد ذلك في فكرة الجزاء في القانون الدولي العام .
أولاً- تعريف الجزاء في القانون الدولي العام . لم يتفق الباحثون وفقهاء القانون حول وضع تعريف محدد للجزاء ، بل
عرف الجزاء تعريفات متعددة ، فقد عرفه (كلسن Kelsen ) بأنه " رد الفعل
المحدد للقانون ضد السلوك الإنساني الموصوف بأنه غير شرعي او مخالف للقانون
فهو اذن نتيجة ذلك السلوك الذي تباشره السلطة المسؤولة "([5]).
كما عرف (كافاريه) الجزاء بأنه إجراء اجتماعي يستهدف تامين تطبيق قاعدة قانونية وذلك بمعاقبة مخالف هذه القاعدة([6]).
و تم تعريف الجزاء أيضا بأنه وسيلة من وسائل القهر التي تباشرها
السلطة العامة في المجتمع([7]) ، أي انه إجراء ينطوي على إكراه يتخذ ضد من
يرتكب عملاً غير مشروع([8]).
في حين ذهب رأي آخر من الفقه إلى
أن اصطلاح الجزاء ينصرف إلى إجراء محدد يطبق من اجل تامين ضمان الطاعة
والامتثال للقانون([9]).
غير أن الجزاء في مفهومه الواسع هو
مجموعة الإجراءات والوسائل التي تستهدف إزالة آثار التصرف غير المشروع .
وهناك أيضا تعريف اكثر تحديداً هو أن الجزاء يشتمل على أي لون من ألوان
الضرر توقعه الفئة المسيطرة على الجماعة بعضو من أعضائها بسبب إخلاله بإحدى
قواعد القانون التي تلزمه بالانصياع لاحكامها، ويستوي في هذا المجال أن
ينصرف الضرر إلى الكيان الذاتي للمخاطب بالقاعدة أو إلى ذمته المالية أو
إلى ما قد يجريه من تصرفات قانونية([10]).
وإذا دققنا النظر في التعريفات الواردة أعلاه نجد أن جميعها تجمع فيما بينها عناصر مشتركة هي :
1. قاعدة قانونية .
2. إخلال بأحكام تلك القاعدة .
3. إجراء قسري يطبق على المخل بهذه الإحكام .
إذن
تعرف الجزاءات بشكل عام بأنها (وسيلة اجتماعية هدفها ضمان احترام وتطبيق
القانون عن طريق ردع الانتهاكات الموجهة ضده)([11])، فالجزاء يعتبر إذن
عملاً من الأعمال التي تواجه بها الجماعة مخالفة القاعدة القانونية التي
تفرضها من أحد المخاطبين بها ، لضمان عدم مخالفة تلك القاعدة القانونية ،
إن تطبيق القانون واتباع أحكامه لا يترك لرغبة الأفراد ، لان عدم احترام
القانون يعرض كيان الجماعة للانهيار، فطبيعة وظيفة القانون تقتضي أن تكون
أحكامه متبعة ومطاعة ، سواء كان ذلك باختيار المخاطبين به او نتيجة
لإجبارهم على ذلك .
إذن يتضح لنا من ما ذكر آنفاً من أن الجزاء يواجه
ظاهرة مخالفة القاعدة القانونية من ناحيتين ، الناحية الأولى اختيار الجزاء
المناسب ، والأخرى في كيفية تنفيذ هذا الجزاء .
وبالنسبة إلى الناحية
الأولى فإنها تتحدد من خلال تحديد الجزاء لكل فعل ينتهك القانون ، ومن ثم
تسهل المهمة أمام الجهة المختصة بإيقاع الجزاء المناسب ، فهو يضع أمام
المخاطبين (القاعدة القانونية) وأمام السلطة المنوط بها إيقاع (الجزاء) ،
أما فيما يخص كيفية تنفيذ الجزاء فانه يضم في إطاره القواعد المتعلقة
بتنفيذ الجزاء والتدابير بمختلف أنواعها على النحو الذي تتحقق به أهداف
السياسة الجزائية في منع خرق أحكام القانون.
ومصطلح الجزاء له مدلول عام
يتضمن كل صور رد الفعل التي تترتب على مخالفة أية قاعدة من قواعد السلوك
ولو لم تكن قاعدة قانونية ، فكل قواعد الأخلاق أو قواعد المجاملة يمكن
القول إنها لا تقترن بجزاء مادي على مخالفتها ، ولكن الجزاء في القواعد
القانونية يختلف اختلافاً جوهرياً عن جزاء القواعد الأخرى ، فالجزاء في
القانون ينطوي على الإجبار والقسر ، أما بالنسبة إلى جزاء القواعد الأخرى
فهو جزاء أدبي لا يتضمن أي فعل من أفعال القسر والإجبار([12]) .
فجزاءات القانون الدولي على سبيل المثال تتمثل في إجراءات يتم تنفيذها
بالقوة، وهي بهذا تقتضي تدخل الجماعة الدولية أو الهيئات الدولية لغرض
إزالة آثار المخالفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ومن الملاحظ أن بعض صور
الجزاء في القواعد القانونية لا يقصد بها إزالة اثر المخالفة وإجبار من
وقعت منه على تعديل موقفهم المخالف للقانون ، إنما يقصد بالجزاء مجرد
الاقتصاص من المخالف وذلك بهدف تحقيق الردع الكافي لغيره إذا ما حاول إتيان
نفس المخالفة([13]) ، لذا نلاحظ أن المنظمات الدولية قد شرعت منذ بداية
القرن العشرين بتنظيم سلوك الدول وعمدت إلى إقامة علاقات سليمة فيما بينها ،
وهو ما دفع هذه المنظمات إلى تبني إيقاع الجزاءات الدولية على الدول
المخالفة لأحكام هذه المنظمات وذلك بهدف حث الدول على الوفاء بالتزاماتها
وصولاً إلى الاستقرار في العلاقات الدولية .
أما بالنسبة إلى تضمين القواعد القانونية عنصر الجزاء فهذا يتوقف على أمرين:-
الأول : ظروف الجماعة التي يطبق فيها .
الثاني : درجة حضارتهم المادية والمعنوية .
ومن خلال هذين الأمرين يمكن التعرف على مدى التطور الحاصل في مفهوم
الجزاء ومدى مشروعيته ، و يمكن تحديدها حسب المعايير آلاتية :
1. يجب أن يرد الجزاء في نص قانوني معلن ومعروف .
2. يجب أن يصدر الجزاء من سلطة لها اختصاص فرضه وتتمتع بالقوة اللازمة لإخضاع المخالف .
3. الالتزام بالنص القانوني عند فرض الجزاء .
4. سريان الجزاءات على جميع المخالفين .
ومهما
اختلفت طبيعة المخالفين للقانون سواء أكانت دولاً أم أفراداً ، فان هذه
المعايير المذكورة تكاد تكون واحدة على الصعيد القانوني و بدورها تعكس
عدالة القانون الداخلي (الوطني) والقانون الدولي([14]) .
إذن كفاية
الجزاء تختلف حسب درجة التنظيم القانوني للجماعة ، ففي الجماعة الوطنية ،
يقرر الجزاء من قبل سلطة تشريعية عليا ، ويعهد بتطبيقه إلى سلطات محددة
يعينها قانون تلك الجماعة ، أما بالنسبة إلى الجماعة الدولية فلم تكن هناك
سلطة عليا قبل عصبة الأمم "League of Nations" تقرر الجزاءات ، ولا سلطة
دولية تتولى تنفيذها ، وتتحقق أولاً في حصول مخالفة للقانون الدولي ومن ثم
تقرر تطبيق الجزاء على الدولة التي ارتكبت المخالفة ولذلك فان الجزاء في
القانون الدولي يتميز بأنه اقل فعالية من الجزاء في القانون الداخلي
(الوطني) ، وفي كلا القانونين كان الأخذ بنظر الاعتبار كرامة الإنسان
وحرياته ، وللتقدم الفكري الحاصل في مختلف مجالات الحياة اثر مهم في تطور
مفهوم الجزاءات التي تقترن بها قواعد القانون في المجتمعات الحديثة بصورة
اكثر تنظيماً مما كانت عليه في الماضي ، وفضلاً عن ذلك التغير الحاصل في
وسائل الإجبار المتعلقة بتنفيذ أحكام القانون أو إيقاع الجزاء ، كما تم
إنشاء سلطات متخصصة لمتابعة مخالفي القانون وكذلك إصدار الجزاء المناسب
بحقهم([15]) .
ثانياً - فكرة الجزاء في القانون الدولي العام : لقد أثارت فكرة الجزاء في القانون الدولي منذ ظهورها خلافاَ فقهياً
كبيراً ، فقد شكك اتجاه في الفقه وجود الجزاء في القانون الدولي ، وقد كان
لهذا الاتجاه تبريره ، في حين أكد اتجاه آخر وجود هذا الجزاء ولكن بشكل
وبطبيعة تختلف عن نظيره في القوانين الداخلية .
وترجع أهمية هذا
الخلاف إلى أن وجود الجزاء أو تخلفه هو محور التشكيك في النظام القانوني
الدولي ، وهو الدافع وراء الباحثين للوصول إلى أساس القانون الدولي وتحديد
طبيعته([16]).
ونوجز فيما يأتي هذا الخلاف الفقهي :
الاتجاه الأول : شكك اتجاه في الفقه في إضفاء الصفة القانونية على قواعد القانون الدولي
وذلك تأسيساً على مقارنته بقواعد القانون الداخلي التي تتضمن إيقاع الجزاء
على المخالف له ، ولذلك ووفقاً لما ذهب إليه هذا الاتجاه فأنه يعد مقياساً
للشكل الكامل المثالي للقانون ، وتنحصر دائرة الشك في قانونية القواعد
القانونية الدولية في مدى الالتزام بها من قبل الدول وقدرة المجتمع على ضبط
سلوك أفراده ومعاقبة المخل بنظامه .
وترجع جذور هذا الاتجاه
إلى القرن التاسع عشر حيث غلب عليه التمسك بالخصائص التقليدية للقانون ،
فقد عرف بأنه يطلب صالحاً معيناً ويفرض جزاءات لألزام الأفراد بهذا الصالح ،
ومن أهم متزعمي هذا الاتجاه المشرع الإنكليزي (اوستن Austen) ، الذي وصف
القانون الدولي بأنه ليس اكثر من نظام أخلاقي إيجابي([17]).
وبذلك فان غياب الجزاءات المنظمة قد أوجد الريبة لدى الباحثين في قانونية
القواعد الدولية والاعتقاد بأنهم أمام نظام قانوني بدائي([18]).
إذن ينكر هذا الاتجاه على القانون الدولي توافر القاعدة الملزمة ، ومن ثم
أنكر عليه وصف القانون ، فالجزاء هو الذي يمنح القاعدة القانونية فعاليتها ،
وقياساً على النظام القانوني الداخلي ، فان المجتمع الدولي يفتقر إلى وجود
آلية لتوقيع الجزاءات على المخالف .
كما يرى أنصار هذا الاتجاه
أن التدابير التي تتخذها الدول بنفسها رداً على الاعتداء الواقع عليها في
حالة دفاعها عن نفسها(Self – defense) ، هي ضرب من ضروب الانتقام
(Reprisals ) أو الرد بالمثل لكنها لا ترقى إلى مستوى الجزاءات التي يجب أن
توقع بواسطة سلطة عليا حاكمة تتمتع بالحياد ، كما ان الجزاءات التي
يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة لا يمكن مقارنتها بالجزاءات التي تفرضها
القوانين الداخلية، ذلك أن نظام التصويت في جهازها التنفيذي مجلس الأمنUN
Security Counsel قد افرغ التدابير التي يقررها في مضمون الجزاء ، بحيث
تحولت إلى أداة سياسية في يد القوى العظمى تستخدمها ضغوطاً للتأثير في
سياسات الدول الأخرى تحقيقاً لمصالحها.
وقد أيد كثير من الفقهاء
هذا الاتجاه ذاهبين إلى أن أساس اتصاف قواعد القانون بالوضعية والإلزام
إنما يكمن في اقترانها بالجزاء الذي يوقع رداً على مخالفتها ، فإذا لم
يتوافر لها هذا الجزاء تجردت في أساس الالتزام بها([19]).
ويتفق
(كلسن Kelsen) مع هذا الاتجاه في أن القاعدة القانونية يجب أن تقترن بجزاء
يفرض لغرض الالتزام بها ، ولكنه يختلف عن الآخرين فيما ذهب إليه من أن
الجماعة الدولية لا تملك عناصر مكتملة للجزاء ، وفي محاولة لإنقاذ القانون
الدولي قام بطبع تدابير الحرب والإجراءات الانتقامية بطابع الجزاءات
الدولية([20]).
ومن أهم الفقهاء الغربيين الذين أيدوا كلسن
(هيجل و هوبز) ، ومن الكتاب المصريين الدكتور محمود سامي جنينة والدكتور
محمد سامي عبد الحميد الذي دعم رأي كلسن بما قرره بأنه لا يحول دون توافر
عنصر الجزاء قيام الجماعة نفسها بممارسة مهمة توقيعه مباشرةً ، وذلك بغير
الالتجاء في هذا إلى الأجهزة الوسيطة المتخصصة ، إذ من المتصور أن يشترك
جميع الأعضاء في الجماعة الدولية في توقيع الجزاء على الدولة المخلة
بالتزاماتها([21]).
ومن الملاحظ أن هذا الرأي قد ركن على ما هو
كائن فعلاً وليس على ما ينبغي أن يكون ، مستنداً إلى ما ذهب إليه
(ميكافللي) في كتابه (الأمير) الفصل الخامس عشر عندما قال: " ان كيفية
عيشنا تختلف كثيراً عن كيف يجب أن نعيش بحيث أن من يدرس ماذا يجب فعله
بدلاً من دراسة ما يجري فعلاً ، يتعلم الطريق إلى سقوطه بدلاً من الطريق
إلى بقائه " ([22]).
الاتجاه الثاني : يرى أنصار هذا الاتجاه أن دور الجزاء في القانون لا يتعدى كونه
دوراً تنفيذياً، يتمثل بما يمكن أن تتخذه السلطة التنفيذية من إجراءات
القسر لحمل الأفراد على الالتزام بالقانون ، واتباع ما يقضي به من أحكام ،
فالجزاء المنظم وان كان يساعد على نفاذ القاعدة القانونية وتطبيقها ولكنه
ليس شرطاً لوجودها([23]).
والى ابعد من ذلك ذهب جانب من الفقه
إلى انه ليس كل التزام قانوني قائماً على التهديد بفرض جزاء ، إذ يمكن
الخضوع لقاعدة قانونية ملزمة دون خوف من جزاءات تمارس ضد المخالف ،
فالإحساس بالالتزام لا يرتبط بوجود جزاء([24]).
كما يرى
الأستاذ الغنيمي أن الولاء للقانون لا يلزم حتماً الأمر أو التهديد بالجزاء
، بل يعتمد فقط على قبول قاعدة القانون بوصفها قاعدةً ملزمة([25]).
إن أسباب امتثال الدولة لأحكام القانون الدولي هي ذات الأسباب في
المجتمع الداخلي ، فالدول تؤدي واجباتها لأنها تعلم أن هذا النظام الدولي
لن يعمل بغير هذه الطريقة ، كما أن من شان التزامها المحافظة على عضويتها
في التجمعات الدولية ، للفوز بالمزايا التي تمنحها لها تلك التجمعات ،
فضلاً عن أهداف أخرى تسعى إليها الدول مثل الحصول على احترام مماثل من
الدول الأخرى ، وكذلك احترام الرأي العام العالمي دولاً وشعوباً .
وفي حقيقة الأمر إن مدى استفادة الدولة من الامتثال لأحكام القانون على
المدى البعيد تفوق المزايا التي تحصل عليها في المدى القصير إذا لم تتمثل
بالمدى القصير لأحكام القانون([26]).
بعد أن تبين لنا تعريف
الجزاء وفكرته في القانون الدولي العام ودوره في تقوية عنصر الالتزام
بالقواعد الدولية ، سوف نتناول في المطلب التالي تعريف الجزاءات الدولية
الاقتصادية .
المطلب الثاني : تعريف الجزاءات الدولية الاقتصادية
تعتبر الجزاءات الدولية الاقتصادية أهم واحدث أشكال الجزاء في
إطار العلاقات الدولية ، وقد حظيت هذه الجزاءات باهتمام الدول والمنظمات
الدولية منذ وقت طويل ، كما حرص الكثير من فقهاء القانون الدولي على وضع
ضوابط لها حتى لا يقع الخلط بينها وبين أشكال أخرى لاستخدام القسر في
العلاقات الدولية .
لذا فان القيام بتعريف الجزاءات الاقتصادية
شئ مهم وحرج ، وان موطن الحرج فيه يأتي من أن أي توسع في هذا المجال سوف
يؤدي إلى الفوضى في استخدام الضغوط الاقتصادية ، وإضفاء المشروعية على جميع
أشكالها ، وغياب الضوابط التي تحكم العمل بها .
وقد وضع جانب
من الفقه تعريفاً موسعاً للجزاءات الاقتصادية حيث عرفت بأنها: " أي تصرف
سياسي يحمل أذى أو إكراه تقوم به الدولة في سياستها الاقتصادية الخارجية "
([27]) . والملاحظ على هذا التعريف انه يخلو من الضوابط التي يمكن ان تحكم
هذه الإجراءات ، مما يؤدي إلى إطلاق يد الدول في ممارسة الضغوط المختلفة
لتنفيذ فرض سياساتها متذرعة في ذلك بتوقيع الجزاءات الاقتصادية على الدول
المخلة بالتزاماتها الدولية .
وتعريف آخر للجزاء الاقتصادي يتسم
ببعض الدقة هو : " إن الجزاء الاقتصادي إجراء يهدف إلى التأثير على إرادة
دولة في ممارسة حقوقها لحملها على احترام التزاماتها الدولية ، بحيث تصبح
قراراتها مطابقة لما يفرضه عليها القانون الدولي " ([28])، ونرى أن هذا
التعريف قد أضاف تحديداً لفكرة الجزاءات الاقتصادية ، حيث حدد الهدف من
وراء الجزاء وهو التأثير في الدولة لحثها على احترام قواعد القانون الدولي.
وقد عرف جانب من الفقه الجزاءات الدولية الاقتصادية في مجال إيقاع
هذه الجزاءات ؛ بأنها " الإجراءات ذات الطابع الاقتصادي التي تطبقها الدول
على دولة معتدية أما لمنعها من ارتكاب عمل عدواني أو بقصد إيقاف عمل
عدواني كانت تلك الدولة قد بدأته ، وهذا ما أكدته لجنة الجزاءات الدولية
التابعة لعصبة الأمم والتي تشكلت عام 1931 ، حيث أن هدف الجزاءات الدولية
الاقتصادية هو الإضرار بمصالح الدولة التجارية والصناعية في سبيل تغيير
سياسة الدولة العدوانية ، ومن الملاحظ أن تعريف لجنة الجزاءات الدولية
للجزاءات يتطابق مع التعريف الذي سبق ذكره للجزاءات الدولية وخصوصاً في
ناحية التركيز على منع الدول من انتهاج سياسات عدائية ضد الدول الأخرى "
([29]).
وقد أضاف (كلسن) إلى هذا التعريف ... ان الجزاءات
الدولية الاقتصادية لا تستهدف حفظ وحماية القانون ، بل تستهدف حفظ وحماية
السلام والذي بدوره لا يتفق بالضرورة مع القانون([30]).
يتضح لنا مما سبق انه يمكن وضع ملامح رئيسة لتعريف الجزاءات الدولية الاقتصادية هي :
أولاً- الجزاءات
الدولية الاقتصادية هي إجراء دولي اقتصادي ، أي انه تصرف دولي تقوم به
منظمات دولية أو دول في مجال العلاقات الدولية الاقتصادية وتستهدف مصالح
الدولة التجارية والصناعية .
ثانياً- هي إجراء قسري ، بمعنى انه يطبق على الدولة الهدف بشكل إجباري ، فهو إذن يؤثر سلبا في المصالح الاقتصادية الأساسية لهذه الدولة .
ثالثاً- يطبق
الإجراء العقابي لمواجهة الإخلال بالالتزامات القانونية الدولية ، أي أن
يكون نتيجة لوقوع عدوان أو تهديد بالعدوان على العلاقات الدولية سواء
السياسية أو الاقتصادية .
رابعاً- يستهدف هذا
الإجراء إصلاح سلوك الدولة العدواني وحماية مصالح الدول الأخرى والحفاظ على
السلم والأمن الدوليين ، وبهذا يمكن هنا أن نميز الجزاءات الدولية
الاقتصادية من الضغوط الاقتصادية المختلفة التي تستهدف الدولة بها تحقيق
مصالحها والتأثير في سياسات الدول المغايرة لها .
وبصرف النظر عن الهدف
المعلن من وراء توقيع الجزاء الاقتصادي فان الهدف المشترك في كل حالاته هو
العقاب والتأديب للدولة شعباً وحكومةً ، وما تتضمن هذه الجزاءات من حرمان
الدولة من ممارسة حقوقها السياسية والعمل على إضعافها اقتصادياً وينجم عنه
اهتزاز نظامها الاقتصادي لفترة قد تطول أو تقصر .
المبحث الثاني : أشكال الجزاءات الدولية الاقتصادية وأهدافها في القانون الدولي والسلطة التي تقوم بفرضها .
قبل البدء بالبحث في أشكال الجزاءات الدولية الاقتصادية لا بد لنا
في هذا الموضع من هذه الدراسة أن نتناول بإيجاز أنواع الجزاءات في القانون
الدولي العام .
يتضمن القانون الدولي مجموعة من القواعد التي
تنظم العلاقات بين أشخاصه وتحدد حقوقهم وواجباتهم ، والوسائل التي تضمن
تطبيق تلك القواعد في هذا القانون هي الجزاءات ، ويمكن تقسيم الجزاءات في
القانون الدولي إلى قسمين([31]):
1- جزاءات خالية من الإكراه .
2- جزاءات متضمنة للإكراه .
أولاً- الجزاءات الخالية من الإكراه :ويضم هذه القسم من الجزاءات الأشكال الآتية :
أ- الجزاءات المالية Financial Sanctions : وتترتب هذه الجزاءات بناء على المسؤولية الأولية للدولة المخالفة ،
وتتقرر إما بالطرق الدبلوماسية أو عن طريق التحكيم أو القضاء
الدولي([32]). وتعد التعويضات أحد الجزاءات المالية المترتبة نتيجة فعل
سابق ، كما قد تأخذ شكلاً آخر غير التعويضات ألا وهو حجز وتجميد الأرصدة
المالية للدولة المخالفة (المعاقبة) ، ومثال ذلك عندما قامت الولايات
المتحدة الأمريكية بحجز الأرصدة الإيرانية بعد أزمة الرهائن عام 1980 ،
ومثال آخر عندما قامت الأمم المتحدة بتجميد أرصدة هاييتي في البنوك الدولية
وذلك بموجب القرار المرقم 861 الصادر عن مجلس الأمن .
ب- الجزاءات القانونية Legal Sanctions : يعمل هذا النوع من الجزاءات الدولية على وقف التصرفات القانونية
ذات الطبيعة الدولية ، وهذا الجزاء خاص بالالتزامات القانونية المترتبة على
الدولة نتيجة دخولها طرفاً في اتفاقية أو معاهدة معينة ، ومن أمثلة هذا
الجزاء إبطال معاهدة لوجود عيب في عقدها أو لتعارضها مع أحكام القانون
الدولي ، أو حرمان الدولة المخلة بأحكام المعاهدة من التمتع بالمزايا
الممنوحة لها بموجب هذه المعاهدة .
جـ- الجزاءات التأديبية Disciplinary Sanctions : تفرض هذه الجزاءات من قبل المؤتمرات أو المنظمات الدولية ضد
الدولة التي لا تقوم بواجباتها ، وخير مثال على هذا النوع من الجزاءات ما
نصت عليه الفقرة الرابعة من المادة (16) من عهد عصبة الأمم ، حيث نصت على
طرد العضو الذي لا يفي بالالتزامات المفروضة عليه بموجب عهد العصبة ، ومثال
آخر على هذا النوع من الجزاءات ما ورد في نص المادة (5) من ميثاق الأمم
المتحدة من وقف العضو في المنظمة الدولية – الذي فرض عليه مجلس الأمن
تدابير قمعية – عن مباشرته لحقوق العضوية فيها ومزاياها حيث نصت هذه المادة
على انه : ( يجوز للجمعية العامة أن توقف أي عضو اتخذ مجلس الأمن قبله
عملاً من أعمال المنع أو القمع ، عن مباشرة حقوق العضوية ومزاياها …) ،
وكذلك ما ورد في نص المادة (19) من الميثاق أيضاً من معاقبة الدولة التي لا
تفي بالتزاماتها تجاه الأمم المتحدة وحرمانها من ممارسة حق التصويت فيها ،
والتي تنص على أن : ( لا يكون لعضو الأمم المتحدة الذي يتأخر عن تسديد
اشتراكاته المالية في الهيئة حق التصويت في الجمعية العامة…) .
د- الجزاءات المعنوية Moral Sanctions : وتأخذ هذه الجزاءات شكل اللوم الموجه إلى الدولة المخالفة وذلك من
قبل المؤتمرات او المنظمات الدولية([33]) . والأمثلة على هذا النوع من
الجزاءات كثيرة ، فاللوم الذي توجهه الجمعية العامة للدول الأعضاء في
المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان ، واستنكار الرأي العام العالمي هو أحد
أنواع هذه الجزاءات التي تنطوي على نوع من التأثير النسبي ضد سلوك الدولة
المخالفة .
هـ- قطع العلاقات الدبلوماسية Diplomatic Severance : ويقيم هذا النوع من الجزاءات تخفيض درجة التمثيل الدبلوماسي ،
ويقصد بهذا الجزاء الاحتجاج على عمل ارتكبته إحدى الدول أو رعاياها أو
بتحريض منها ، مما أدى إلى إلحاق الضرر بمصالح الدولة التي ارتكب ضدها ذلك
الفعل ، وفي الأعم الأغلب لا تلجأ الدول إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية إلا
إذا كان العمل المرتكب جسيماً ، وقد يؤدي هذا النوع من الجزاء إلى قطع أو
إيقاف الصلات بين الطرفين ، ومن الأمثلة على هذا الجزاء قيام العراق بقطع
علاقاته الدبلوماسية مع دول العدوان الثلاثيني عام 1991 .
ثانياً- الجزاءات المتضمنة للإكراه :ويضم هذا القسم من الجزاءات الأشكال الآتية :
أ- الجزاءات الجنائية Criminal Sanctions : يثير هذا النوع من الجزاءات عدة تحفظات لدى فقهاء القانون الدولي ،
فهذا النوع من الجزاءات تكون نادرة وغالباً ما تصدر ضد أفراد وليس ضد
دول([34]).
وخير مثال على هذا النوع من الجزاءات ، ما قام به
الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية من تشكيل محكمة جنائية لمحاكمة مجرمي
الحرب الألمان واليابانيين وبناء على تلك المحكمة حاول فقهاء القانون
الدولي اتخاذ هذه المحاكمات أساساً لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ، وبعد
أن تم تشكيل عدد من المحاكم الجنائية عن طريق منظمة الأمم المتحدة لمحاكمة
الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني في
يوغوسلافيا السابقة ورواندا([35])، فلقد نجحت الجهود الدولية في إنشاء
محكمة جنائية دائمة عام 1998 ، والشيء الذي ينبغي تأكيده في هذا المجال هو
أن حاجة المجتمع الدولي تستلزم وجود مثل هذه المحاكم ولكن مقابل ذلك ينبغي
أن تراعى فيها العدالة والنزاهة وان تكون أحكامها بعيدة عن كل الاعتبارات
السياسية والانتماءات الدينية والطائفية .
ب- الاقتصاص : وهو عبارة عن عمل يتضمن مخالفة لقواعد القانون الدولي ترد به
الدولة على مخالفة مماثلة حدثت من دولة أخرى بقصد وقف تلك المخالفة أو
التعويض عنها ، والاقتصاص كان مشروعاً في ظل القانون الدولي التقليدي وعهد
عصبة الأمم ، أما في ظل ميثاق الأمم المتحدة اصبح الاقتصاص محرماً قانوناً
بموجب المادة (2) الفقرتان (3 و4) من ميثاق الأمم المتحدة، وقد أكد مجلس
الأمن هذا الوضع القانوني للاقتصاص في العديد من قراراته منها القرار الذي
أصدره بالإجماع عام 1968 وأدان فيه إسرائيل لهجومها على مطار بيروت ولكن
غالباً ما تعلن الدولة أن العمل الذي قامت به هو بمثابة ضربة إستباقية
(هجوم وقائي) على الدولة الأخرى وذلك لتبرير موقفها أمام القانون الدولي
والرأي العام العالمي ، فالولايات المتحدة قد بررت العمل العسكري الذي قامت
به ضد السودان وأفغانستان عام 1998 وذلك لتهديدهما الأمن القومي الأمريكي .
جـ- الضمان : يقصد به تعهد الدولة بمقتضى معاهدة تنفيذ التزام دولي وضمان
المحافظة على هذا الالتزام ، ومن أمثلة ذلك معاهدات الدفاع المشترك بين
الدول التي تعقدها فيما بينها بوصفها نوعاً من الأحلاف لمواجهة خطر معين ،
ومن الأمثلة على ذلك أيضا ، ما أعلنته كل من الولايات الأمريكية وبريطانيا
أكثر من مرة عن تضمنها حماية الكويت والمحافظة على بقائها.
د- الجزاءات الاقتصادية Economic Sanctions : كما أسلفنا في موضع سابق من هذه الدراسة عند تعريف الجزاءات
الدولية الاقتصادية أنها تعد لدى فقهاء القانون الدولي بمثابة إجراء تلجأ
إليه سلطات الدولة او هيئاتها وأفرادها لوقف العلاقات التجارية مع دولة
أخرى ومنع التعامل مع رعاياها بقصد الضغط الاقتصادي عليها بوصفه رد فعل
لارتكابها أعمالا عدائية ضدها([36]).
وتختلف الجزاءات
الاقتصادية عند تطبيقها باختلاف الظرف السائد وباختلاف الظروف التي تفرض
فيها ، فقد تكون هذه الجزاءات فردية أي عبارة عن إجراءات
تتخذها الدولة
ضد طرف آخر لمقاطعتها اقتصادياً مثل الجزاءات التي فرضتها الولايات المتحدة
ضد كوبا عام 1962. وللجزاءات الاقتصادية عدة أشكال وهذا ما سنأتي إلى بحثه
في المطلب التالي .
بعد أن بينا أنواع الجزاءات الدولية في
القانون الدولي العام ، سوف نبين في المطلب الآتي ، أشكال الجزاءات الدولية
الاقتصادية ، ثم نتناول في المطلب الثاني السلطة المنوط بها فرض هذه
الجزاءات ، وأخيراً في المطلب الثالث نعرض بإيجاز أهداف الجزاءات الدولية .
.../... يتبع